في مواجهة شتاء الشمال البارد، حيث تنخفض درجات الحرارة غالبًا إلى ما دون الصفر، ابتكرت فنلندا بهدوء حلاً ذكيًا ومتطورًا لتحدي الطاقة المتزايد. فدون ضجة كبيرة، طورت البلاد نظامًا يلتقط الحرارة المهدرة من مراكز البيانات المتعطشة للطاقة ويعيد استخدامها لتدفئة المنازل والمدارس والمباني العامة عبر شبكاتها الواسعة للتدفئة المركزية للمناطق (District Heating).
هذا النهج المبتكر يقلل من انبعاثات الكربون ويحوّل ما كان يُعتبر في السابق عبئًا بيئيًا إلى مورد مستدام، مما يضع فنلندا في صدارة الدول العالمية في دمج الطاقة الخضراء. ومن خلال الاستفادة من الناتج الثانوي الحتمي لعصرنا الرقمي – أي الحرارة الناتجة عن الخوادم – تعالج فنلندا المطالب المزدوجة لاستهلاك البيانات المتزايد والأهداف المناخية، كل ذلك مع المساعدة في خفض تكاليف الطاقة على السكان.
فهم الآلية: مراكز البيانات والتدفئة المركزية للمناطق
التدفئة المركزية للمناطق هي نظام مركزي شائع في دول الشمال، ينطوي على إنتاج الماء الساخن أو البخار في محطة مركزية وتوزيعه عبر أنابيب معزولة لتدفئة المباني في أحياء أو مدن بأكملها. وتخدم هذه البنية التحتية بالفعل حوالي نصف سكان فنلندا.
دور مراكز البيانات
تولد مراكز البيانات، المليئة بالخوادم التي تعمل على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع من أجل الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي والخدمات عبر الإنترنت، كميات هائلة من الحرارة كمنتج ثانوي لاستهلاك الكهرباء.
على مستوى العالم، غالبًا ما يتم إهدار ما يصل إلى 99% من هذه الحرارة، حيث يتم تهويتها في الغلاف الجوي أو تبريدها بأنظمة تستهلك الكثير من الطاقة.
يكمن إنجاز فنلندا في التقاط هذه الحرارة من المصدر ودمجها في شبكات التدفئة المركزية للمناطق، مما يحوّل مراكز البيانات فعليًا إلى سخانات حضرية.
العملية
نقل الحرارة: تقوم المبادلات الحرارية بنقل الهواء أو الماء الدافئ من أنظمة تبريد الخوادم إلى شبكة التدفئة المركزية للمناطق.
التدوير: تقوم المضخات بتدوير هذه الطاقة المستعادة إلى المستخدمين النهائيين.
الاستخدام النهائي: تُستخدم الطاقة المستعادة لتدفئة الأماكن والماء الساخن في المنازل والمباني.
يتميز هذا النظام ذو الحلقة المغلقة بكفاءة عالية، خاصة وأن مراكز البيانات في المناخات الباردة تستفيد من التبريد الطبيعي للهواء، مما يقلل من احتياجاتها الإضافية من الطاقة، كما أن ناتجها الحراري ثابت على مدار العام.
🗺️ مشاريع بارزة تقود الابتكار
اكتسبت مبادرات فنلندا لاستعادة الحرارة المهدرة زخمًا على مدار العقد الماضي، مما يدل على قابلية التكنولوجيا للتوسع:
مانتسـالا (Mäntsälä): في هذه البلدة الجنوبية الصغيرة، يزود مركز بيانات بقدرة 75 ميجاوات، يعمل منذ حوالي عقد، ما يعادل 2,500 منزل بالحرارة، مغطيًا ما يقرب من ثلثي احتياجات التدفئة في البلدة.
مرفق جوجل في هامينا (Hamina): من المتوقع أن يوفر هذا المشروع، بدءًا من عام 2025، 80% من الطلب السنوي على التدفئة في هامينا، ويخدم المنازل والمدارس والمباني العامة مجانًا (باستثناء رسوم إدارية رمزية). يتم التقاط الحرارة من خوادم تعمل بالفعل على طاقة خالية من الكربون بنسبة 97%.
فورتوم ومايكروسوفت (Kolabacken و Hepokorpi): يوصف بأنه أكبر مشروع من نوعه في العالم، حيث ستبلغ السعة الحرارية المجمعة لمركزي بيانات بالقرب من إسبو وكيركونومي ما يصل إلى 350 ميجاوات. بمجرد تشغيله في موسم التدفئة 2025-2026، سيوفر الحرارة لنحو 40% من عملاء فورتوم في المناطق المحيطة، مما يسرع التخلص التدريجي من الفحم.
مختبرات نوكيا (إسبو): حتى العمليات الأصغر حجمًا تساهم، حيث تستخدم نوكيا الحرارة المهدرة من مختبراتها لتدفئة المساكن القريبة اعتبارًا من عام 2024.
💰 المزايا البيئية والاقتصادية
يحقق دمج الحرارة المهدرة من مراكز البيانات في التدفئة المركزية للمناطق مزايا كبيرة:
البيئية: وجدت دراسة أن مركز بيانات بقدرة 21 ميجاوات يمكن أن يقلل من انبعاثات $\text{CO}_2$ بنسبة 36% عن طريق إزاحة الوقود عالي الانبعاثات مثل الكتلة الحيوية والخث (البيتموس). تدعم هذه المشاريع، على المستوى الوطني، تحول فنلندا إلى اقتصاد منخفض الكربون وتساعد في تحقيق أهداف خفض الانبعاثات.
الاقتصادية:
يمكن أن تنخفض تكاليف الإنتاج بشكل كبير، مع تحقيق وفورات أكبر خلال فترات ارتفاع أسعار الوقود.
غالبًا ما يتمتع السكان بفواتير تدفئة أقل؛ ففي هامينا، على سبيل المثال، يتم توفير الحرارة مجانًا بشكل أساسي.
يجذب هذا النموذج استثمارات التكنولوجيا إلى دول الشمال، حيث تجعل الشبكات المعتمدة بشكل كبير على مصادر الطاقة المتجددة (المائية والرياح والنووية) والطقس البارد مراكز البيانات أكثر كفاءة.
🚧 التحديات والمضي قدمًا
على الرغم من الوعود الكبيرة، يواجه النظام بعض العقبات:
تقلب الإمدادات: يمكن أن يتقلب الناتج الحراري لمراكز البيانات حسب متطلبات السوق، مما قد يؤدي إلى تقلب في الإمدادات. يعد تنويع مصادر الحرارة أمرًا أساسيًا لتجنب الاعتماد المفرط على مرفق واحد.
الاستثمار الأولي: تتطلب الاستثمارات الأولية في البنية التحتية، مثل الأنابيب والمضخات، رأس مال كبيرًا مقدمًا، على الرغم من أن التوفير على المدى الطويل من المتوقع أن يبرر التكاليف.
تتجه التوقعات إلى أن يصبح "حصاد الحرارة" هذا معيارًا في المناخات الباردة، مما يلهم مبادرات مماثلة في جميع أنحاء العالم ويحوّل مراكز البيانات من مستهلكين هائلين للطاقة إلى جهات فاعلة تفيد المجتمع. يجسد هذا التحول الهادئ في التدفئة في فنلندا كيف يمكن للابتكار أن يربط التكنولوجيا والاستدامة بفعالية.
![]() | ![]() | ![]() |
![]() | ![]() | ![]() |





